أدب الحوار:
لقد شاءت إرادة الله تعالى أن يخلق النّاس مختلفين في عقولهم،
وتفكيرهم، ودينهم، وأخلاقهم، وأفعالهم، وإن الواقع يؤكد هذه المشيئة،
فمن المعلوم أنه لا يوجد اثنان على ظهر الأرض متحدين
أو متطابقين في الشكل والملامح تمام التطابق، قد يتشابه بعض الناس من قريب أو من بعيد، ولكن من المستحيل أن يتطابق أحدهم مع الآخر.
وتدلنا الإحصاءات العلمية أن عدد الناس وسكان العالم الآن يبلغ
سبعة مليارات ومائتين واثنين مليون نسمة، وأن الاختلاف في الشكل
وفي الطبع وفي الفكر هو القانون السائد بينهم، وأن هذا القانون باق ولا يتغير إلى يوم القيامة .
وهذا ما يقرره القرآن الكريم في آيات عدة، وليس من العيب أن
تختلف، وأن يزعم كل منا أنه على الحق، لكن لا بد من سماع الآخرين
فربما يكون عندهم ما ليس عندنا، فأفضل وسيلة للوصول إلى الحق هو الحوار مع الآخرين.
الهدف من الحوار:
الحوار الراقي لا هدف له شوى إظهار الحق، وكشف الشبهات
وإزالة اللبس، والتقريب بين وجهات النظر، وتضييق الخلاف.
آداب الحوار:
هناك آداب ينبغي للأطراف المتحاورة مراعاتُها، وأهم هذه الآداب مايلي:
أولا: التأدب في الحديث عند مخاطبة الآخر:
فلا يصح أن تصدر من أحد المتحاورين كلمة أو إشارة باليد أو
نظرة بالعين يفهم منها السخرية من الآخر أو الاستهزاء به أو الغض
من شأنه، مهما بلغ التعارض والاختلاف بين المتحاورين ، ومن هنا قرر "القرآن الكريم" أن يكون التعارف الذي يتضمن الحوار الهادئ هو العلاقة
الثابتة بين الناس الذين قضى الله أن يكونوا مختلفين، استمع لقوله
تعالى:
« وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن 》* [الإسراء:53]،
وقال تعالى:
*《 ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجدلهم بالتي
هي أحسن 》* [النحل:١٢٥].
ثانيا: حسن الاستماع وتجنب المقاطعة:
يجب على الطرفين المتحاورين أن يحسن كل منها الاستماع إلى الآخر،
ويحذر من مقاطعته في حديثه، وعلى كل منها أن ينتظر حتى يفرغ صاحبه
من حديثه، وذلك لما لحسن الاستماع من أثر نفسي واضح؛ إذ تسلم بسببه
النفوس من التوثر، والقلوب من الغيظ، مما يساعد على الوصول إلى
الحقيقة، والاقتناع بالحجة.
ومن الظواهر السيئة في الحوار، الدالة على إفلاس المحاور، وعجزه
عن الحوار العلمي الجاد: مقاطعة المتحدث، أو الإطالة في الحديث دور
سبب، مما يؤدي إلى اضطراب الفكر، وتشتت الذهن، والشعور بالملل
والنفور من الحوار .
ثالثا: التجرد من كل ما يصرف عن القضية الرئيسة:
يجب أن يكون المراد من المناقشة الوصول إلى الحق، سواء أكان الحق
معك أم مع غيرك، وهذا يعد من باب الإخلاص، الذي عده العلاء
شرطا لصحة أي عمل، وقبوله عند الله تعالى، والثواب عليه يوم القيامة .
فينبغي أن تكون القضية الرئيسة هي موضع النقاش، دون النظر إلى
الأشخاص وصفاتهم، وأن تفرح إذا ظهر الحق ولو على لسان الآخر،
کا قال الشافعي: "ما ناظرت أحدا إلا تمنيت لو أن الله أظهر الحق على لسانه" (١)
رابعا : قوة الحجة وخلوها من التناقض والاضطراب:
إذا تناقشت مع الآخرين فأقنعهم بالدليل، وقد أكد القرآن الكريم -
على ذلك في أكثر من موقف؛ كقوله تعالى:
( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصرى تلك أمانيهم قل هاتوا برهنكم إن كنتم صدقين ) [البقرة: 111]،
(۱) انظر: مناقب الشافعي للبيهقي ١/ ١٧٤، وسير أعلام النبلاء للذهبي: ۲۹/۱۰
وكقوله تعالي:-
(ام اتخذوا من دونه ءالهه قل هاتوا برهانكم)
(الأنبياء ٢٤).
ولا بد أن يكون الدليل واضحا، مقنعا، قويا، مرتبا، خاليا من التناقض.
خامسا: التسليم بالنتائج:
إن ظهر الحق على لسان من يحاورك فلا تستمر على رأيك؛ فليس من
العيب أن يخطئ الإنسان، وإنّما العيب أن يتمادى في خطئه، والعاقل هو
ذي يسلم بخطئه، ويقر بصحة الحق أينها وجد، وهذا يحتاج إلى صدق، إخلاص، وشجاعة.
والاعتراف بالحق وإعلانه لا ينقص من قدر الإنسان، بل يزيده رفعة
احتراما، بالإضافة إلى تأثيره النفسي في الطرف الآخر؛ إذ فيه تهيئة
فسه لقبول الانتقاد، والاعتراف بخطئه، وسرعة الرجوع إلى الحق،
قد ردد كثير من العلماء رحمهم الله هذه المقولة المشهورة : (رأيي صواب)
يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ تحتمل الصواب»(1).
(۱) عزاء ابن عابدين في رد المحتار إلى كتاب المصفى لأن البركات عبد الله بن أحمد
النسفي (ت ۷۱۰هـ)، صاحب التصانيف المفيدة في الفقه والأصول، بنظر تر جمته في
الدرر الكامنة لابن حجر: ۳/ ۱۷
عزيزى القارئ لاتنسى تقييم المقالات من خلال تعليقكم على صفحات الموقع